حينما يعدم الوطن

موضوع: حينما يعدم الوطن 13/10/2009, 10:04

بسم الله الرحمن الرحيم

كبرت وأنا أرى والدي يحفظ قصاصة من ورق بجوار قلبه، أكل عليها الدهر وشرب
حتى شحب لونها واصفرت، وتسلل الضعف إلى أوصالها فكادت أن تهترئ من كثرة
المطالعة والمراجعة؛ فقرر والدي أخيراً أن يغلفها ليحفظها بعد أن غلفها بدموعه
مراراً وتكراراً.

ومضت بنا الأيام وجاء دور قلبي لتنازعه تلك القصاصة راحته ومستقره، ولتزيد
نبضاته غالباً وتوقفها حد الموت أحياناً كثيرة، وبرغم ذلك كله لم أفكر يوماً بنقلها
من فوق قلبي اليسار إلى قلبي اليمين ولو للحظة واحدة... لكم أن تعذروني فأحياناً
أشعر أني بقلبين ولد أحدهما من الآخر ونما واستوطن الجانب الأيمن من صدري
ليصنع شيئاً من توازن، وليساعد في حمل أعباء النبض الزائد بفعل تلك القصاصة،
فهي وحدها بحاجة لدستة قلوب!!

حاولت أن أمضي حياتي متجاهلاً أمر تلك القصاصة ، ومحاولاً التعايش مع الواقع،
بل والاستسلام له وعدم التصادم معه... حاولت وحاولت وحاولت وفي كل مرة أجد
تلك القصاصة تجذبني بقوة من قلبي وتعيدني لرشدي من جديد، رشدي الذي جعل
البعض يتهمني بالجنون، رشدي الذي كنت أرسمه رشاشاً على الورق، وأنحته على
الخشب سيفاً خجولاً يتزنر به الأطفال، رشدي المجنون كان "أحبك وطني" ، جملة
زينت بها دفاتري وحيطاني، جملة أزعجت البعض فمنعوني ترديدها حفظاً لي من
الجنون، ولهم من إزعاج المجانين.

كانوا يمنعوني من التصريح بحبه في الوقت الذي كان فيه وطني يُعدم على شفير
ساقية تمتد في عمق الأرض، ساقية تصب في أرض منه مغتصبة محارب أهلها
مضطهدون، كنا قد سكتنا على اغتصابها واشترينا سلامتنا وسلامة أولادنا، كنا
فرحين بفتات من فضول غلالنا المسلوبة إضافة لتلك الأرض، كنا نسمع أن المشهد
هناك ما خلف أسوار الظلام ليس إلا ظلمٌ، ومشانق، وآهات، وأكباد محروقة، وأشلاء
ودماء، وكانوا دائماً يقولون لنا لا تفعلوا ما فعلوا حتى لا يحدث لكم ما حدث لهم، وكنا
دائماً نتساءل ترى ماذا فعلوا؟!!

وكان بعض المجانين يقولون لنا أن خلف أسوار الظلام ضياء... ضياء ليس كأي
ضياء، فهو ضياء قناديل أسرجت من دماء!! وزادوا وقالوا أنه سيأتي اليوم الذي
ستتفجر فيه في صحراء الخوف ماء...

هذا هو الحال.. أرض ظلامٍ، وكلام مجانين، وتهديد ظالمين، و فوق ذلك قصاصة
تزعجني وأضمها إلى قلبي وأمضي.

اشترينا السلامة، هادنّا، تنازلنا، رضينا بالفتات، تنازلنا عن الفتات، ولكن ما بال وطني
يسلب منا، ما باله يعدم، ما بالهم يعذبوننا بعذابه، لقد أعدموه على مرأى منا ومسمع،
كنا مشبوحين مصلوبين في قفار كانت جنان يوماً ما، كنا نزينها بنور وجوهنا وتلألؤ
الحب في عيوننا، ولكن الأوصياء عليه وعلينا قتلوا الفرحة في قلوبنا وحاصرونا
وعذبونا وأعدموا الوطن... نعم أعدموه، ثم نثروا الملح والأرز احتفاءً بنصرهم،
فلامس الملح جراحنا ولامس الأرز أرضاً اشتاقت لما ينبت في جوفها فيهدئ من ثورة
أعماقها الحرى التي اشتاقت للدماء الزكية تتناثر على عزف القنابل والرصاص.

أعدم وطننا واختلفنا كثيراً، تشاجرنا، تراشقنا الصمت، ثم هدأت ثورة صمتنا، وخرجنا
بنتيجة أننا ذَبحنا الوطن وذُبِحنا معه.

وفي المساء همس بعضنا ولربما أنطقتهم رائحة دم الوطن التي عبقت في الأرجاء،
ولكن حتى الهمس أزعج صمت الخوف وأثار العيون لتجول في الأفق باحثة عمن قد
يسترق الهمس فيلحقنا غير آبهٍ بالوطن، كانت تكاد أرواحنا المصلوبة وأجسادنا
المشبوحة تتجمد من شدة الألم والحزن والخوف، وعاد جمعنا ليتناقش بصمت ضج له
كل الأحياء في بقاع الأرض إلا نحن لم نسمع له حسيساً، تناقشنا بقوة نبض الوجع
في أعماقنا، وهمست من فرط نبض قلبي المؤلم وقلت: إلى متى سنشتري السلامة وقد
باعتنا؟!!

فحاولوا أن يكتموا أنفاسي بأيديهم وعيونهم المكبلة، وقال أحدهم بصمت: لن يسكته إلا
تمزيق تلك القصاصة فاستلها من فوق قلبي، وفضولاً قرأها؛ فشخصت عيناه وتمتم
"ولا يبني الممالك كالضحايا" ومضى يعدو واخترق سور الظلام وأضاء... نعم أضاء.

فتقدم آخر مني بخوف وقال: هاتها، ثم تراجع وقال: بل اقرأها همساً، فتبسمت ثم بكيت
وقرأتها بنحيب تتقطع له نياط القلوب..
"لقد ولد الوطن من رحم جراحنا، ونسجناه من أرواحنا، وجعلنا فيه أنهاراً من دمائنا
ينبت من حولها فيورق ويزهر، فكيف لنا أن ننسى وجع أكبادنا ونبيع الوطن..

هذا إرثنا لكم فلا تفرطوا فيه وكونوا عليه أمناء..

أبوكم محارب فلسطيني
.

موضوع: رد: حينما يعدم الوطن 13/10/2009, 11:41

الله كلمات في غاية الروعة مشكورة اختي الكريمة على الموضوع الرائع

تحياتي : admin

موضوع: رد: حينما يعدم الوطن 29/1/2010, 07:10

مشكورة عاشقة الدموع على الموضوع الرائع وكلمات روعة جدآ
مع تحياتي : عبدالوهاب

موضوع: رد: حينما يعدم الوطن 4/2/2010, 07:22

مشكوره على الموضوع الجيد

مع تحياتي محمد عبيد

موضوع: رد: حينما يعدم الوطن 8/2/2010, 06:53

مشكورة عاشقة الدموع على الموضوع الرائع
تحياتي وردة الاقصى

موضوع: رد: حينما يعدم الوطن 15/2/2010, 06:52

مشكورين يا جماعة على المرور الطيب
مع تحياتي : عاشقة الدموع

موضوع: رد: حينما يعدم الوطن 23/2/2010, 06:06

مشكور على الموضوع

موضوع: رد: حينما يعدم الوطن 5/3/2010, 02:16

شكرا عاشقة الدموع على الموضوع
مع تحياتي

» هل تنتهي الحياة حينما نخطئ ؟
» لأجل الوطن
» سلاماً أيها الوطن الجريح